شهد قطاع الاتصالات في دول منطقة الشرق الأوسط ازدهاراً كبيراً على مدار الأعوام الماضية. ويعزى ذلك النجاح للتنسيق والتناغم الجيد الحاصل بين الجهات التنظيمية الحكومية ومصنعي التجهيزات وموفري خدمات وحلول الاتصالات وتقنية المعلومات بالتماشي مع المعايير والمقاييس العالمية المتفق عليها.

 

وساهم الالتزام بالمعايير المشتركة بتطويرها على ضوء التجارب العملية التي تستهدق دفع عجلة التحول الرقمي بوتيرة متسارعة في دول عديدة في المنطقة مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر وسائر دول مجلس التعاون الخليجي بالاعتماد على المميزات الجديدة للتقنيات الحديثة المتطورة وفي مقدمتها شبكات الجيل الخامس.

 

وتسعى مختلف الشركات التقنية المحلية في الوقت الحالي لابتكار قيم جديدة للأعمال والمستهلكين من خلال الحلول والخدمات الرقمية، حيث قدرت شركة “استراتيجي آند” للأبحاث أن يسهم الاقتصاد الرقمي في رفد الناتج المحلي الإجمالي للمملكة العربية السعودية على سبيل المثال بـ 49% تقريباً.

 

يتم تحقيق التقدم في هذا المجال بفضل التعاون بين مختلف الأطراف المعنية واعتماد المعايير الدولية المشتركة المجمع عليها، وبالتالي فإن أي خلافات تطرأ على هذا الإجماع قد تؤدي إلى عرقلة التنسيق الحاصل وتراجع مستوى الاستفادة من التقنيات الحديثة، وبالتالي تقويض أطر العمل على نمو الاقتصاد الرقمي في الوقت الذي تسعى فيه المزيد من شركات الاتصالات لتنفيذ استراتيجيات نشر شبكات الجيل الخامس لتطوير العديد من القطاعات والصناعات.ويتم ذلك على ضوء الالتزام بمعايير الاتصالات المعتمدة على المستوى العالمي التي حددتها الجهات الدولية المستقلة وأبرزها مشروع شراكة الجيل الثالث 3GPP والجمعية الدولية للهاتف المحمول “جي اس ام ايه”.

 

وتعتبر المناقشات التي تجرى في الوقت الحالي حول برنامج شبكات الوصول اللاسلكي المفتوحة (Open RAN) الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية من الأمثلة المهمة على الخلافات المحتملة التي قد تعكر صفو تناغم العمل على تطوير شبكات وأنظمة الاتصالات وتقنية المعلومات. ومن الناحية النظرية، تدعو مبادئ البرنامج إلى التعاون بين الشركات التقنية على دعم واجهات شبكات الوصول اللاسلكي لتمكين التشغيل المشترك بين تجهيزات الموردين بعيداً عن احتكار شركة واحدة.

 

لكن ذلك لا يعتبر “معياراً” بديلاً كما يظن البعض، إنما فعلياً طريقة فنية لتنفيذ مواقع شبكات الوصول اللاسلكي RAN داخل الشبكة بمنأى عن المعايير التي أرستها الجهات الدولية المتخصصة كمشروع شراكة الجيل الثالث أو المعايير العالمية الأخرى ذات الصلة كنظام أمن تجهيزات الشبكات الذي وضعته الجمعية الدولية للهاتف المحمول “جي اس ام ايه”، ما يفتح المجال واسعاً أمام العديد من الأسئلة حول جدوى تنفيذ هذا البرنامج وثماره على المدى القريب.

 

وعلى الرغم من أن إطلاق برنامج شبكات الوصول اللاسلكي المفتوحة شهد اهتماماً على مستوى انضمام موفري الخدمات ومشغلي الاتصالات له، لكن العديد من خبراء التكنولوجيا يعيدون النظر في موقفهم من البرنامج، سيما وأن هناك إعادة تقييم للوعود التي رافقت إطلاق هذا البرنامج، خصوصاً فيما يتعلق بمستقبل عمل الشبكات وتعزيز مردودها الإيجابي على الأعمال والأفراد.

 

حكومة المملكة المتحدة – على سبيل المثال لا الحصر – كانت من أوائل المدافعين عن برنامج شبكات الوصول اللاسلكي المفتوحة، حيث أصدرت تفويضاً لنشرها في البلاد في خطوة مفاجئة تستهدف تعزيز اقتصاد السوق الحرة. لكن الحكومة غيرت موقفها بعد ذلك ودعت في آخر بيان أصدرته إلى خفض سقف التوقعات بشأن الاعتماد على برنامج تقنية الوصول اللاسلكي المفتوحة والقابلة للتشغيل المشترك في شبكات الهاتف المحمول.

 

الحجة الأساسية للمدافعين عن شبكات الوصول اللاسلكي المفتوحة هي أن الشبكات ستسهم في تعزيز الاعتماد على مجموعة متنوعة من الموردين، مما يؤدي إلى تعزيز المنافسة وبالتالي الحد من تكاليف الشبكات. لكن سرعان ما واجه القطاع التقني العديد من التحديات المتوقعة التي تعيق تحقيق التكامل بين المنصات التي تعتمد على العديد من الموردين.

 

واعترف نيل ماكراي، كبير المهندسين في مجموعة الاتصالات البريطانية الكبرى بهذا الأمر، حيث قال إن الشركة لن تعتمد على عدد كبير من الموردين نظراً لصعوبة تحقيق التكامل بين أجزاء تصميم شبكات الوصول اللاسلكي المفتوحة، لا سيما فيما يخص تقنيات الجيل الخامس المتطورة التي ننتظر منها تغييرات إيجابية كبيرة على كافة مستويات الأعمال وخدمات وحلول الأفراد.

 

وقال مكراي أن الحد من تكاليف شبكات الوصول اللاسلكي المترتبة على المشغلين في المستقبل القريب هي “واحدة من أكبر الخرافات في الوقت الحالي”. كما أن النفقات الرأسمالية المتعلقة بالمحطات الأساسية التي يتطلع مشغلو شبكات الوصول اللاسلكي المفتوحة إلى معالجتها ليست سوى جزءاً صغيراً نسبياً من التكلفة الإجمالية للملكية، والتي تتعلق بالنفقات التشغيلية إلى حد كبير.

 

العديد ممن كانوا من أشد الداعين لاعتماد برنامج شبكات الوصول اللاسلكي المفتوحة بدأوا يدركون بأنهم تسرّعوا في الترويج لهذه الشبكات وجدوى العمل على نشرها، إذ لم يتم اختبار كفاءتها في سيناريوهات العالم الواقعي لوقتٍ كافٍ. وحتى في الولايات المتحدة راعية البرنامج، شكك نيفيل راي، رئيس التكنولوجيا في شركة T-Mobile بقدرات أنظمة شبكات الوصول اللاسلكي المفتوحة، حيث قال بأن شركته ترى أن شبكات الوصول اللاسلكي المفتوحة ليست جاهزة بعد “لوقت الذروة”.

 

وقال الرئيس التنفيذي للتكنولوجيا في مجموعة BT Group أنه يرى بأن أقرب فرصة ملائمة لنشر شبكات الوصول اللاسلكي المفتوحة التجارية في المدن ستكون في عام 2027. كما أعرب العديد من الموردين العالميين مثل شركة “إريكسون” والتي كانت من أوائل الداعمين للبرنامج أنهم لا يتوقعون أن يكون لهذه التقنية آثار ملحوظة في وقت قريب.

 

وقال بورج إيكهولم، الرئيس التنفيذي للشركة في حديثه خلال بث مباشر على الإنترنت أنه قد لا نتمكن من نشر شبكات الوصول اللاسلكي المفتوحة إلا في عصر الجيل السادس.

 

لربما كانت الادعاءات بأنه يمكن نشر شبكات الوصول اللاسلكي المفتوحة مجرد دعاية أكثر من كونها حقيقة، ولربما كان هذا البرنامج الأمريكي يستهدف كبح جماح تكنولوجيا الصين وتحديداً ريادة شركة هواوي لعالم الشبكات والجيل الخامس.

 

وتوقعت مجموعة Dell’Oro للأبحاث أن القيمة السوقية لشبكات Open RAN بلغت 500 مليون دولار في عام 2021، أي ما يعادل جزءاً صغيراً من القيمة السوقية السنوية لشبكات الوصول اللاسلكي من الجيل الخامس والتي تبلغ 38 مليار دولار. وفي ظل التوقعات الحالية، لن تتجاوز قيمة هذه التقنية 10% من القيمة الإجمالية لسوق شبكات الوصول اللاسلكي بحلول عام 2025.

 

في ظل الظروف الحالية التي تتطلب إيجاد مزيد من المحفزات الاقتصادية بفضل التطورات التكنولوجية والتعاون المنفتح، يبدو أن العديد من مزودي خدمات اتصالات الجيل الخامس قد يواجهون عراقيل جديدة على مدار العام الحالي إن تم تبني برنامج شبكات الوصول اللاسلكي المفتوحة دون إجراء مزيد من دراسات الجدوى، في الوقت الذي نحن فيه بأمس الحاجة لازدهار قطاع الاتصالات والمنافسة المفتوحة بين مصنعي التجهيزات.

 

وبالنظر إلى أن برنامج Open RAN قد لا يقدم الإسهامات المرجوة ويحمل أهدافاً جيوسياسية، فلربما كان من الحكمة إعادة النظر فيه لصالح مستقبل الشبكات في دول منطقتنا باعتبارنا بأمس الحاجة للاستفادة من ابتكارات التكنولوجيا لتحقيق التطور والنمو الاقتصادي والاجتماعي المنشود، بعيداً عن أية مقوضات.