يمر العالم اليوم بمرحلة حاسمة من التطور التقني تتحول فيه مجالات جديدة كإنترنت الأشياء، والذكاء الاصطناعي، والواقع المعزز من مجرد مصطلحات تقنية إلى تقنيات حقيقية، يمكن أن تسهم في دعم  مقدرات الدول ودفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية على المدى القريب والمتوسط والبعيد.

وستسهم سرعة الاتصالات التي تدعمها شبكات الجيل الخامس التي تعتبر آحدث التقنيات التي توصلت إليها صناعة الاتصالات وتقنية المعلومات في تعزيز كفاءة أعمال وجودة خدمات الصناعات الجديدة، بدءاً بصناعة السيارات المتصلة بالشبكة، مروراً بالروبوتات، وصولاً إلى الحوسبة الكمية، وسيكون لذلك أثر كبير على دفع عملية تطور مختلف القطاعات، سيما الحيوية منها كالمواصلات والصحة والبنوك وغيرها، لذلك، فإن مَنْ يتربع على عرش ريادة شبكات الجيل الخامس سيكون عملاق القرن الحادي والعشرين بلا أدنى شك.

وفي هذا السياق، تخوض القوتين العظميتين في العالم، الولايات المتحدة، والصين حالياً صراعاً محتدماً لفرض الهيمنة على الساحة التقنية، وتشير المعطيات إلى أن الصين تمتلك عصا التحكم في معركة شبكات الجيل الخامس، حيث أدركت بكين أهمية هذه التقنية مبكراً، وعمدت لإرساء الاستثمارات، والقيام بالبحوث والتطوير منذ سنوات، متفوقة بذلك إلى حدٍ كبير على الولايات المتحدة من حيث حجم الاستثمارات التي يتم ضخها لنشر هذه الشبكات.

ووفقاً لإحصائيات شركة الاستشارات العالمية "ديلويت"، تفوقت الصين على الولايات المتحدة من حيث الإنفاق على بنيتها التحتية لشبكات الجيل الخامس منذ عام 2015 بمقدار 24 مليار دولار، ونجحت في بناء 350 ألف برج تغطية جديد على مدار ثلاث سنوات، بينما بَنت الولايات المتحدة أقل من 30 ألف برج في الفترة ذاتها.

ويرى المحللون أن هذه الفجوة آخذه بالتوسع، باعتبار أن أحد المتطلبات التي تم إقرارها للخطة الخمسية الاقتصادية للصين زيادة حجم الاستثمارات المتعلقة بتركيب شبكات الجيل الخامس بنحو 400 مليار دولار.

 

مركز الريادة

بالتوازي مع اهتمام الحكومة الصينية المركز للسيطرة على ريادة التكنولوجيا عالمياً وكسب سباق شبكات الجيل الخامس، برزت واحدة من الشركات الصينية الخاصة غير الحكومية لتحتل مركز الريادة عالمياً في مجال تقنية الجيل الخامس، وهي شركة "هواوي"-الشركة الوحيدة التي أطلقت شريحة متعددة الأنماط لشبكات الجيل الخامس Balong 5000، ودعمتها بطرح أول جهاز تجاري لشبكات الجيل الخامس يعتمد على تلك الشريحة Huawei 5G CPE Pro.

وأعلنت الشركة أيضاً عن التزامها بطرح أول هاتف ذكي لها يعمل بتقنية الجيل الخامس في 2019، وبفضل هذين المنتجين المبتكرين اللذين يعملان بتقنية الجيل الخامس، تمكنت "هواوي" من توفير خدمات الاتصالات اللاسلكية الأسرع في العالم، وهو الأمر الذي ساعد تفوق "هواوي" في تقنية الجيل الخامس، لكي تحتل مركز الصدارة ليس في مجال تقنية المستخدمة فحسب، وإنما أيضاً في التقنيات التي تعتمد على شبكات الجيل الخامس، مثل تقنيات الذكاء الاصطناعي.

وفي العام الماضي، أطلقت "هواوي" سلسلة "أسيند" من رقاقات معالج الذكاء الاصطناعي، أول تقنية ذكاء اصطناعي من نوعها في العالم تعتمد على بروتوكول الإنترنت وسلسلة رقاقات المعالج المصممة خصيصاً لمجموعة متنوعة من السيناريوهات.

 

وتمثل الريادة التي حققتها شركة "هواوي" أهمية كبيرة، لأنها تعكس التأثير المتصاعد للصين في الساحة العالمية للتكنولوجيا. ومنذ عام 2013 عندما شكّلت بعض الوزارات مجموعة تعزيز الاتصالات المتنقلة الدولية-2020 (لشبكات الجيل الخامس) للمضي قدماً في وضع معايير شبكات الجيل الخامس بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، واليابان وكوريا، أثبتت القيادة الصينية تفهمها الواضح لأهمية شبكات الجيل الخامس ودعمها المنقطع النظير لتطوير هذه التقنية والبدء الفعلي بالتطبيقات التجارية لها.

 

إقامة نظام إيكولوجي

وقد هيّأ الدعم الحكومي الاستباقي والاستثمارات الرأسمالية الصناعية بيئة مواتية لتطوير تقنيات الجيل الخامس في الصين، الأمر الذي ساعد على إقامة نظام إيكولوجي قوي يضم مُصنعي المعدات والأجهزة، ومورّدي الشرائح، ومُشغلي الاتصالات، ومزودي التطبيقات والمنصات، مما يقلل بشكل كبير من المخاطر الاستثمارية التي يتعرض لها قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات. ولم تستفد الولايات المتحدة من مستوى الدعم الحكومي في هذا المجال، وهو ما انعكس بوضوح في الوضع الراهن للولايات المتحدة فيما يتعلق باستعدادها لنشر تقنية الجيل الخامس؛ فلكل 10 آلاف مستخدم، لم تخصص الولايات المتحدة من الحصة السوقية لمواقع شبكات الجيل الخامس التي يجري تنفيذها سوى 4.7 في المائة. وعلى النقيض من ذلك، بلغت الحصة السوقية للصين ثلاثة أضعاف ذلك وسجلت: 14.1 في المائة لكل 10 آلاف مستخدم.

ونظراً لتصاعد الحرب التجارية الدائرة بين الولايات المتحدة والصين، يرى العديد من المراقبين بأن ماتوجهه حالياً الولايات المتحدة من اتهامات لشركة "هواوي"، تنتقد فيها الأمن السيبراني للشركة وتتهمها بوضع أنظمة تنصت خفية على معداتها للتجسس لصالح الحكومة الصينية إنما هو فعلياً تناول جيو سياسي لريادة الصين ممثلة بهواوي لشبكات الجيل الخامس. وفي تصعيد خطير للأزمة، أصدرت الولايات المتحدة الشهر الماضي أمراً باعتقال ابنة رين زينغفوي، مؤسس شركة "هواوي" ورئيس مجلس إدارتها، من كندا إثر إدّعاءات بانتهاكها "العقوبات التجارية المفروضة على إيران".

وحتى اليوم تتفاوت مواقف دول الغرب وباقي دول العالم في تأييدها للطرح الأمريكي للادعاءات الموجهة لشركة "هواوي"، ولم نرى سوى عدد قليل فقط من الدول الغربية قد سايرت الولايات المتحدة بشكل مطلق في هذا الأمر، ولم تُعلّق أغلب الدول في العالم على هذا الأمر.

وعلى النقيض من ذلك، شهدنا على مدار فترة أزمة "هواوي" إظهار بعض الدول دعمها لشركة "هواوي" باعتبار أنه لم يتم تقديم دليل واحد على الإدعاءات الأمريكية بخصوص مخاوف الأمن السيبراني، وخرج العديد من التنفيذيين رفيعي المستوى في مجال الاتصالات ليقولوا رأيهم بصراحة في هذا الأمر، فعلى سبيل المثال، أوضح ها هيون هوي، الرئيس التنفيذي ونائب رئيس مجلس الإدارة في شركة "إل جي يو بلس"، أنه لا يعتقد مطلقاً أن هناك أي تهديدات أمنية تتعلق باستخدام معدات "هواوي"، وحتى حلفاء الولايات المتحدة الذين يدعمون قرارها بحظر التعامل مع "هواوي"، مثل كندا، لديهم شركات اتصالات رائدة كشركة "تيلوس جروب"، والتي تعارض هذا الموقف وتقر بأن "هواوي" لا تمثل أي تهديد أمني، لأنها لم تقدم معدات لشبكتها الرئيسية الحساسة وأنها تعمل تحت الإشراف المباشر للمؤسسة الكندية الأمنية للاتصالات.

كما شهدنا مؤخراً شركات اتصالات كبرى كشركة جلوبل للاتصالات الفلبينية تقول صراحة بأنها تعتمد كلياً على "هواوي" لتطوير شبكات الجيل الخامس. وقد صرح العديد من المحللين صراحة بأن إقصاء "هواوي" من بناء شبكات الجيل الخامس في الدول، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية سيؤدي لتأخر هذه الدول في عملية النشر التجاري لشبكات الجيل الخامس، نظراً لما تمتلكه الشركة حالياً من منتجات وحلول حصرية لاتتوفر عند سائر المنافسين.  كما أعرب العديد من قيادي قطاع الاتصالات عن أملهم في تحييد البعد الجيوسياسي بقضية "هواوي" واعتماد النقاش التقني البحت باعتبار أن مسألة الأمن السيبراني قضية تقنية باتفاق الجميع، سيما وأن "هواوي" قد أبدت استعدادها التام وانفتاحها الكامل للوقوف على أية مسائل تقنية تتعلق بالأمن السيبراني والعمل على تجاوز أي هفوات محتملة لاتتطابق مع معايير مشغلي الاتصالات كما هو الحال بالنسبة لبريتش تيليكوم التي دخلت بحوار موسع مع "هواوي" للقيام بتعديلات تقنية موسعة رحبت بها "هواوي" بوساعة صدر  واعتبرتها مثالاً واقعياً عن العمل المشترك الذي يمكن القيام به لحل المسائل التقنية.

 

حتى الفرقاء

وفي هذا المضمار، نفت "هواوي" مراراً وتكراراً هذه الادعاءات، موضحة في كافة المناسبات بأن مسألة المخاوف المطروحة في مجال الأمن السيبراني هي مسألة تقنية يمكن حلها من خلال الحوار والتعاون بين الشركاء وحتى الفرقاء. وفي مقابلة نادرة مع وسائل الإعلام، أكد رين زينغفوي، مؤسس "هواوي"، أنه "لم يتلق بصفته الشخصية - وكذلك شركة "هواوي" - أي طلب من أي حكومة بإفشاء معلومات غير مصرَّح بها". وعند سؤاله عما إذا كان سيتعرض لضغوط لتقديم معلومات حساسة إذا ما طلبت منه الحكومة الصينية ذلك، جاء رده واضحاً: سنرد بكل حزم على مثل هذا الطلب بالرفض القاطع".

وعلى الرغم من تصدر هذه الادعاءات عناوين الصحف والأخبار في جميع أنحاء العالم، إلأ أنه لايبدو أن لها تأثير يذكر على أعمال الشركة خلال الفترة الوجيزة الحالية. 

وقد أعلنت "هواوي" خلال الشهر الماضي على لسان مؤسسها ونواب مجلس إدارتها عن الإيرادات التي حققتها مبيعاتها في عام 2018 بتوقع وصولها إلى 108.5 مليار دولار، لتحقق بذلك قفزة سنوية في الإيرادات بنسبة 21% عن العام الفائت. ولا نزال نشهد إقبال مشغلي اتصالات على معدات "هواوي" لشبكات الجيل الخامس، خصوصا بعد الإعلان عن توقيع أكثر من 30 عقداً تجارياً وشحنت ما يزيد على 25 ألف محطة اتصالات رئيسية لشبكات الجيل الخامس.

قوة صاعدة

ويرى محللون أن الشركة ستستمر كقوة "صاعدة في هذا المجال، مستشهدين على ذلك بتعهد الشركة بضخ استثمارات تزيد على 100 مليار دولار في مجال البحث والتطوير على مدى السنوات الخمس المقبلة.

واليوم، يمكن القول بأنه قد بدأت بالفعل الموجة الأولى من خدمات شبكات الجيل الخامس التجارية في الدول المتقدمة، والجيد في الأمر أن العديد من دول منطقة الشرق الأوسط الرائدة ممثلة بدول مجلس التعاون الخليجي يتوقع لها أن تأخذ لنفسها موقعاً ريادياً في إطلاق هذه الشبكات باعتبار أن العديد من الخطط والرؤى الوطنية قد أرست التكنولوجيا كأحد المحاور الهامة لها لتحقيق أهدافها على صعيد التنمية الاجتماعية والاقتصادية.

وستشهد السنوات المقبلة إطلاق مزيد من شبكات  الجيل الخامس في جميع أنحاء العالم، والتي من المؤكد أنها ستعطي أبعاداً جديدة لحياتنا وأعمالنا بصورة غير مسبوقة. ولعل السؤال الأهم الذي يتبادر للذهن، هل سيتم فتح باب التعاون المفتوح والعمل  المشترك على شبكات الجيل الخامس حتى بين الفرقاء، بعيداً عن الاعتبارات الجيو سياسية والسباق على من سيصبح عملاق القرن الحادي والعشرين من خلال ريادة التكنولوجيا، وفي مقدمتها شبكات الجيل الخامس.