خلال الأشهر لماضية، طالعتنا وكالات أنباء ومواقع إعلامية دولية بعناوين خبر مفاده أن الإدارة الأمريكية ممثلة بوزارة التجارة على وشك توقيع مسودة قرار تتضمن قواعد جديدة تسمح للشركات الأمريكية بالعمل مع شركة هواوي الصينية على وضع معايير شبكات الجيل الخامس. فهل ياترى أدركت الإداراة الأمريكية ضعف موقفها في حرب التكنولوجيا التي تخوضها مع الصين، وتحديداً في مجال قيادة شبكات الجيل الخامس الذي هز المارد الصيني هواوي عرش أمريكا التكنولوجي بها.  

بحسب المصادر التي أوردت الخبر وأولها رويترز،  الشركات الأمريكية عاشت تجربة عام كامل من عدم الوضوح واليقين بالنسبة لمصير تعاملاتها وارتباطاتها مع عدد من الشركات الصينية وأهمها هواوي بعد قرار إضافتها على القائمة السوداء، حيث توقف المهندسون الأمريكيون عن التعامل معها في مسألة تطوير معايير شبكات الجيل الخامس وباتوا بموقع غير أكيد بالنسبة للمعلومات التي يمكنهم مشاركتها مع هذه الشركة، المصنع الأكبر  لمعدات الاتصالات في العالم.

وبحسب مسؤولون في الحكومة الأمريكية وخبراء الصناعة، أدى ذلك لتأخر أمريكا عن اللحاق بقطار العمل على تطوير الجيل الخامس، وتركها في وضع ضعيف فيما يتعلق بانضمامها للمجتمع الدولي لمناقشة ووضع معايير شبكات الجيل الخامس، الأمر الذي لمعت فيه الصين ممثلة بهواوي، بينما كان المهندسون الأمريكيون يجلسون بصمت في الصفوف الخلفية ليس لديهم الكثير ليقولوه.

يرى متخصصين بأن سياسات الحكومة الأمريكية قد تسببت بفقدان أمريكا مكانتها لصالح الصين. فكيف للشركات الأمريكية أن تكون في الصفوف الأمامية للتكنولوجيا وهي مكبلة اليدين بقرارات الإدارة الأمريكية التي أدرجت هواوي ضمن القائمة السوداء وحظرت الشركات الأمريكية من التعامل معها على الرغم من الحقائق الكثيرة التي تتنافى مع هذا الحظر. فهو ينتهك حرية التجارة ويقيد الحوار الحر والعمل المشترك ويعرقل سلاسل التوريد، وضرره واضح تماماً على الشركات الأمريكية.

 كيف لشركات تصنيع الرقاقات والبرامج الأمريكية  ألا تتأثر أعمالهم مع توقف شراء هواوي لوحدها منهم بأكثر من 11 مليار دولار أمريكي سنوياً؟ وكيف لسوق العمل  بأمريكا ألا يتأثر وأكثر من 25 ألف وظيفة في هذه الشركات مهددة بالإلغاء؟ وكيف لشركات الاتصالات الأمريكية في المناطق النائية التي تعتمد شبكاتها على معدات هواوي أن تستمر أعمالها وخدماتها لعملائها إن لم تتمكن من متابعة التعامل مع الشركة على تحديث شبكاتها. ناهيك عن الخسارات المالية الكبيرة الناتجة عن التعامل مع مزود آخر آخر لبناء شبكاتهم من جديد.   

 

الأهم من ذلك، كيف للعديد من الأكاديميات ومؤسسات البحث العلمي والجامعات الأمريكية التي اعتادت على التعاون والتنسيق مع هواوي وكانت تتلقى دعماً مادياً منها لأبحاثها أن تستمر بمزيد من الابتكارات المشتركة في حال تعنت الإدارة الأمريكية واستمرار منعها لهم من التعامل مع الشركة وقبول دعمها المادي.

خلال الأشهر الماضية، أرسل ستة من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي رسالة إلى وزراء التجارة والدفاع والطاقة في الولايات المتحدة حول الحاجة الملحة لإصدار لوائح تؤكد أن مشاركة الولايات المتحدة في وضع معايير الجيل الخامس هي غير مقيدة بقائمة الكيانات أو مايعرف بالقائمة السوداء. وقال السيناتورات: "نحن قلقون للغاية بشأن المخاطر التي تهدد موقع القيادة العالمية للولايات المتحدة في تكنولوجيا الجيل الخامس اللاسلكية نتيجة المشاركة المخفضة لأمريكا في المعايير".

الجيل الخامس ليس مجرد تقنية مستجدة ذات تأثير محدود، بل تكنولوجيا ثورية جديدة ذات تأثير جذري على مستوى تطوير كافة الصناعات والقطاعات. إنها المستقبل ببساطة، فكل ما سمعنا عنه من إنترنت الأشياء والمدن الذكية والأتمتة والحوسبة وتخزين وتحليل البيانات، سيكون لها شأن آخر بوجود شبكات الجيل الخامس التي ستعمل على تشغيل كل شيء بشكل مختلف، بدءًا من عمليات إرسال الفيديو عالي السرعة والوضوح إلى السيارات ذاتية القيادة.

يبدو أن التنافس الأمريكي الصيني على قيادة التكنلوجيا في العالم ليس كغيره من الملفات التقليدية التي قد تستقطب تلقائياً دعم حلفاءأمريكا. فمن الواضح بأن نداءات الإدارة الأمريكية لا تلقى آذانا صاغية لدى حلفائها الأوربيين فيما يتعلق بموقفهم من الحرب التجارية الأمريكية الصينية. فالاتحاد الأوروبي أقر مؤخراً عدم حرمان "هواوي" من فرص العمل على تطوير شبكات الجيل الخامس في دوله بعد يوم واحد فقط من قرار مماثل اتخذته الحكومة البريطانية بعد اجتماع مجلس الأمن القومي برئاسة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، وتضمن إعلان السماح لشركة هواوي المشاركة في تطوير شبكات الجيل الخامس في بريطانيا.  وتستمر الدول الأوربية في تلقي المساعدات الصينية في زمن وباء كورونا المستجد على الرغم من العديد من الأصوات الأمريكية وغيرها التي تعالت في وجه ماسموه "دبلوماسية أقنعة الوجه الصينية".

الصين مهمة لأوروبا. وهواوي مثلاً تعني بالنسبة لهم الابتكارات التكنولوجية التي يرغبون بالحصول عليها لبناء مستقبل صناعاتهم. فها هو تقرير مكتب براءات الاختراع الأوروبي يطل علينا بقائمة أفضل الشركات في مجال براءات الاختراع، معلناً بأن هواوي قامت  بتقديم أكبر عدد من طلبات براءات الاختراع في أوروبا العام الماضي، ما يضعها بمكانة الريادة في مجال تطوير حلول دعم التحول الرقمي في العالم. ومن الطبيعي ألا ينجرف الأوربيين وراء المزاعم والإدعاءات والحملات الإعلامية الأمريكية ضد هذه الشركة إن لم يكن هناك دليل قاطع.

وفقاً لتصنيف "مؤشر الإنفاق على البحث والتطوير الصناعي التابع للاتحاد الأوروبي" الذي تم نشره مؤخراً ويضم أكبر 2500 شركة على مستوى العالم في مجال الاستثمار بالبحث والتطوير، هواوي في المرتبة الخامسة بقائمة أكثر الشركات الكبرى إنفاقاً على البحث والتطوير لعام 2019 على مستوى العالم. وهذا أمر هام يعني الكثير بالنسبة للأوربيين. خصوصاً في زمن كورونا والدور الكبير المثبت للتكنولوجيا في المساعدة على تخفيف حدة الأزمة وطرق التعامل معها والخروج منها. ومن البديهي ألا تتلقف الحكومات الأوربية ببساطة كلام أمريكا في رفض تكنولوجا الصين بناء على مزاعم  تهديدات الأمن القومي وادعاءات خرق أصول الأمن السيبراني التي لم يقدم أي دليل عنها حتى اليوم.

يبدو بأن مسألة وضع المعايير الدولية في مجال تطوير شبكات الجيل الخامس مهمة جداً بالنسبة لأمريكا، مايدفعها لتعدل من موقفها وتكون أكثر مرونة فيما يتعلق بقبول التعامل مع الصين وهواوي في هذه المسألة. والمناقشات التي تدور حالياً في أروقة القرار الأمريكي تتمحور حول تحقيق التوازن بين الاعتبارات الهامة للانخراط في معايير الجيل الخامس والتعاون الدولي في هذا المجال، واحتياجات الأمن القومي الأمريكي.  فهل ياترى هي بداية طريق اعتراف ورضوخ أمريكا لقيادة الصين العالمية للتكنولوجيا!