تتسارع جهود دول منطقة الشرق الأوسط لاستعادة الحياة الطبيعية ودفع عجلة الانتعاش الاقتصادي بعد فترة تطبيق سياسات صارمة للحفاظ على الصحة العامة في إطار مكافحة تفشي فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19). وفي حين يسهم الانتعاش الاقتصادي بتعزيز الأعمال وعودة الأمور لمجاريها، يطرح في الوقت ذاته سؤالاً مهماً حول طبيعة المرحلة القادمة وأهم المحفزات الإقتصادية التي يجب التركيز عليها.

يتضح من خلال العديد من التجارب التي خاضتها الحكومات والشركات والمجتمعات خلال الأزمة بأن جميع الخبراء والمحللين متفقون على أن البنية التحتية المتينة لتقنية المعلومات والاتصالات ساهمت إلى حد كبير في دعم مساعي التعامل مع الأزمة والتعافي منها، وأنها أحد أهم محاور الدعم الذي يجب التركيز عليه لازدهار الاقتصادات بشكل مستدام في المستقبل.

اليوم، ندرك جميعاً بأنه لا يمكن للشركات استئناف أعمالها بنفس الطريقة التي كانت تعمل وفقها في السابق، بل ربما لا ينبغي عليها القيام بذلك في ظل التغيرات الكبيرة التي حدثت في حياتنا، حيث برز دور التجارة الإلكترونية والتعليم والعمل والاستشارات الصحية عن بعد بشكل متسارع أثناء الأزمة، ما دفع بدول المنطقة للتركيز على تعزيز قنوات الاتصال وقدرة الشبكات على التعامل مع الكم الكبير من تداول البيانات والمحتوى عبر منصات الإنترنت الذي وصل في بعض البلدان للضعف. ومن المتوقع أن يشهد النصف الثاني من عام 2020 مزيداً من التغييرات ضمن هذه المجالات.

في الوقت الذي ننشغل فيه بأساليب وأدوات التعافي من الأزمة، يجب علينا أن نصب جل اهتمامنا على الفرص الجديدة المتاحة من خلال الواقع الجديد، والعمل على تحويل القطاعات وفقاً لذلك، بحيث تصبح أكثر مرونة للتعامل مع المتطلبات  المستقبلية وأكثر تهيئاً لتكون قطاعات مستدامة على المدى الطويل.

تغيير نهج وطريقة تعاملنا مع تأثير البشر على البيئة واحدة من الفرص التي برزت أهميتها خلال فترة تفشي الفيروس والتدابير التي تم اتخاذها للتكيف مع مختلف مناحي الأزمة، حيث قدّر الخبراء أن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون اليومية الناتجة عن الأنشطة البشرية كانت أقل بما يصل إلى 17% في شهر أبريل لعام 2020 مما كانت عليه في عام 2019[1]. ماجعل أنطونيو غوتيريس الأمين العام للأمم المتحدة يشدد مؤخراً على أنه "يجب علينا الوفاء بتعهداتنا تجاه الناس والكوكب" بما يتماشى مع خطة التنمية المستدامة[2] لعام 2030، باعتبار أن أثر تعامل المجتمعات البشرية مع البيئة يمكن بات واضحاً بشكل أكبر خلال فترة الأزمة ويمكن أن يرتقي لما ينشده الجميع في مجال تحقيق أهداف الاستدامة.  

مع استئناف أعمال معظم القطاعات خلال المرحلة الحالية، ثمة فرص حقيقية يجب التمعن بها في إطار العمل على تعزيز كفاءة تنفيذ خطط الاستدامة، ويمكن لتقنية المعلومات والاتصالات أن تؤدي دوراً أساسياً في تحقيق الانتعاش المطلوب. وأشار خبراء المنتدى الاقتصادي العالمي مؤخراً إلى الأهمية المتنامية للخدمات الرقمية خلال فترة تفشي الفيروس، حيث تزايد الاعتماد على الخدمات الرقمية في العديد من القطاعات والأنشطة[3]. والجيد في الأمر بأن العديد من دول منطقة الشرق الأوسط تعتمد في استراتيجياتها الوطنية على الرقمنة والتكنولوجيا الحديثة لتحقيق الانتعاش الاقتصادي. وتأتي التقنيات الثورية الجديدة كالذكاء الاصطناعي وشبكات الجيل الخامس وإنترنت الأشياء والسحابة الالكترونية وتحليل البيانات الضخمة في مقدمة التقنيات التي يتوقع الخبراء أنها ستغير طبيعة الأعمال والحياة الاجتماعية، وتعطي أبعاداً جديدة لفرص التنمية ورفع سقف الإنتاجية والنوعية والكفاءة التشتغيلية والخدمية لمختلف القطاعات والصناعات.

دول عديدة في الشرق الأوسط بدأت فعلياً قطف ثمار إسهامات التقنيات الحديثة في تعزيز تطور قطاعات حيوية مثل الرعاية الصحية الإلكترونية والتعليم الافتراضي والنقل والبنوك والنفط والغاز والموانئ والصناعات بفضل الأنظمة الإيكولوجية الرقمية التي توفر قدرات جديدة لهذه القطاعات. ونتوقع حدوث مزيد من التطورات المتسارعة ضمن أربع مجالات إضافية في المستقبل هي الإمداد بالطاقة الكهربائية والنقل وتصميم المباني وقطاع التكنولوجيا ذاته، مما سيسهم في إعادة توجيه اقتصادات الشرق الأوسط نحو مسارات تحمل إجراءات وأدوات أكثر استدامة.

مع التحول الذي يشهده استخدام الكهرباء في فترة عودة المجتمعات إلى أنشطتها المعتادة، يمكن للاستثمار بحلول الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات أن يوفر تنبؤات فورية عن كمية الكهرباء المطلوبة في مكان ما، مما يتيح تحقيق التوازن بين العرض والطلب في الشبكة بشكل أكثر كفاءة ودقة. ويسهم تزويد المنازل بعدادات كهربائية ذكية في توفير النفقات التشغيلية للجهات المسؤولة عن الشبكة، وتقليل الاستهلاك وضبط نفقاته وتعزيز الوعي البيئي حول استخدام الكهرباء من خلال مميزات تحليل البيانات.

في العام الماضي، قدّرت اللجنة الدولية للتغيرات المناخية أن قطاع النقل يتسبب بما يصل إلى 23% من الانبعاثات الكربونية في العالم[4]. وسيكون لإعادة تشغيل شبكات النقل بقدراتها الكاملة آثار بيئية مفاجئة بعد فترة ركود شكلت مرحلة استقرار وتعافي جيد للبيئة. وفي ظل فتح المزيد من المدن والحدود، يمكن لحلول تقنية المعلومات والاتصالات أن تساعد مختلف القطاعات على تنظيم أعمالها بشكل ذكي وتوجيه عمليات الشحن وتقليل عدد الرحلات اللازمة وبالتالي الحد من الانبعاثات. ومع عودة الأنشطة التجارية وإعادة فتح الأماكن العامة في مراكز المدن، يمكن لأنظمة مواقف السيارات الذكية الحد من الازدحام وتقليص الوقت الضائع على الطرقات مع الحفاظ على قواعد التباعد الاجتماعي في نفس الوقت.

تصميم المباني يعتبر واحداً من المجالات الرئيسية التي يمكن لتقنية المعلومات والاتصالات المساهمة في استئناف أعمالها بالتوازي مع ضمان تحقيق أهداف الحفاظ على البيئة، إذ يمكن الحد من استهلاك الطاقة بشكل كبير في الأبنية  باستخدام حلول الذكاء الاصطناعي والكاميرات الذكية لتحليل العوامل المؤثرة مثل توقعات الطقس وكثافة تواجد الناس في المباني في ظل استئناف العمل في المكاتب على وجه الخصوص. وتسهم الحلول الذكية الفورية في إدارة بعض الأنظمة مثل التكييف أو الإضاءة بما يضمن عدم تحميلها أعباء غير ضرورية أثناء الفترة الحالية التي تشهد استئناف الأعمال.

ويسهم اعتماد التقنيات الحديثة في تعزيز الاستدامة ضمن قطاع تقنية المعلومات والاتصالات ذاته. إذ تعمل تقنيات جديدة كالجيل الخامس على الحد من أثر شبكات الاتصالات على البيئة. وبحلول عام 2025، يتوقع انخفاض الانبعاثات الكربونية الناتجة عن قطاع تقنية المعلومات والاتصالات بنسبة تصل إلى 80% لكل نقطة اتصال مقارنةً مع معدلاتها في عام 2015. وسيتجاوز معدل توفير الطاقة والحد من انبعاثات الكربون بالاعتماد على تقنية المعلومات والاتصالات معدل استهلاك القطاع للطاقة وانبعاثات الكربون الناتجة عنه بحيث يتجاوز مستوياته الحالية[5] بـ11 مرة بحلول عام 2025. لكن تحقيق هذه المكاسب يتطلب سياسات وأطر تنظيمية تدعم معايير تقنية المعلومات والاتصالات، بالإضافة لتوسعة مجالات العمل على بناء النظام الإيكولوجي لتقنية المعلومات والاتصالات في دول المنطقة، خصوصاً على مستوى رعاية المواهب المحلية وصقل مقاراتها وتعزيز علومها وخبراتها لتكون على استعداد لاستلام دفة قيادة الاستدامة في المستقبل.

قد تكون بعض السيناريوهات المطروحة طموحة بشكل كبير، لكن الوقت الحالي هو الأنسب لوضع خطط تنفيذ أفضل للعمل على تحقيق هذه الطموحات، إذ لم يسبق لتقنية المعلومات والاتصالات أن شهدت إقبالاً كبيراً  على ضوء وضوح دورها الفاعل خلال أزمة الفيروس. ويمكن ببساطة تنفيذ الأمثلة المطروحة لصداقة البيئة والاستدامة في مجال تزويد الكهرباء والنقل وتصميم المباني والبنية التحتية لتقنية المعلومات والاتصالات من خلال بناء مزيد من جسور العمل المشترك والتعاون المفتوح. والشراكة بين مزودي خدمات الاتصالات وموردي التكنولوجيا والجهات الأخرى المعنية من القطاعين العام والخاص. وهذا مثال جيد عن قنوات العمل الأمثل في مجال استغلال فرص المرحلة الحالية لتحقيق الانتعاش الاقتصادي بدول منطقة الشرق الأوسط، مع الحرص على إبراز البعد الهام للحفاظ على البيئة والاستدامة بشكل كبير على الدوام.