انشغلت أوساط قطاع الاتصالات في المنطقة خلال الأيام
القليلة الماضية بخبر نشرته الدايلي تايمز وتناولته وسائل إعلام أخرى عن عزم
الحكومة الأردنية إقصاء الشركات الصينية من مناقصات مشروع إطلاق الجيل الخامس في
المملكة مع شركات الاتصالات الثلاثة في الأردن زين وأورانج وأمنية. وطرح هذا
التسريب واقعاً جديداً من التساؤلات المرتبطة بالمصالح الوطنية وثقل التأثير
السلبي الذي يتم وضعه على كاهل إحراز التقدم المطلوب لمستقبل دعم التكنولوجيا
للتنمية الاجتماعية والاقتصادية في دول المنطقة. يأتي ذلك على ضوء النهج الذي
تبنته الجهات المعنية بالاتصالات في الأردن ممثلة بالوزارة وهيئة تنظيم قطاع
الاتصالات بقرار حرمان الموردين الصينيين من حق التنافس للحصول على أية حصة في مناقصات
أعمال بناء شبكات الجيل الخامس مع مشغلي الاتصالات في الأردن التي تقدم بها موردين
مختلفي الجنسية وهم إريكسون ونوكيا وسيسكو وراكوتن و زد تي إي وهواوي.
اللافت
في الأمر بأن مصدر التسريبات ذكر بأن تمرير القرار يتم بشكل سري لمشغلي الاتصالات
الأردنيين وتم إقراره بالتماشي مع النهج الأمريكي الأمريكي لمحاربة موردي
التكنولوجيا الصينيين من فرص الحصول على مشاريع في شتى أسواق العالم، سيما تلك
المرتبطة بشبكات الجيل الخامس والتي أثبتت فيها الشركات الصينية خصوصاً هواوي
العملاقة ريادتها العالمية بقطعها أشواطاً كبيرة في حلبة التنافس العالمي مع
منافسيها الغربيين، علماً بأن ساحة المنافسة مازالت تخلو من أي شركة أمريكية
متخصصة بالجيل الخامس.
ويعزو
محللي صناعة الاتصالات وتقنية المعلومات حملة الولايات المتحدة الأمريكية ضد
تكنولوجيا الصين لمحاولة كبح جماح الصين من السيطرة على مستقبل التكنولوجيا،
وبالتالي التحكم بفرص التنمية والتطوير الواسعة النطاق لسائر القطاعات والصناعات
الأخرى والتحكم بالمعلومات، وكذلك قدرة الدول على بناء اقتصاداتها الرقمية
بالاعتماد على تكنولوجيا الصين. ويحصل ذلك في إطار حرص الولايات المتحدة على إبقاء
هيمنتها على سوق التكنولوجيا العالمي الذي لطالما سيطرت عليه لعقود طويلة، لكن
إرادة الصين الكبيرة واستراتيجيتها الرقمية واستثمارات شركاتها الكبيرة في البحث
والتطوير كما هو الحال بالنسبة لشركة هواوي كسرت هذا القاعدة ووضعت الحكومة
الأمريكية والغرب عموماً في موقع حرج حيال الحفاظ على هيمنتها العالمية
للتكنولوجيا.
وذكرت
المصادر بأن الحكومة الأردنية ستعمد لاستبدال أعمال شبكات الاتصالات الحالية للموردون
الصينيون مع المشغلين الثالثة على مدى ثلاث سنوات. ما يفاقم المشكلة من وجهة نظر
مشغلي الاتصالات التي أعرب أحد مسؤوليها التنفيذيين عن قلقهم حيال تبعات الحظر الذي سيتم فرضه على شركة
هواوي تحديداً والتي تمتلك حالياً حصة الأسد في سوق الاتصالات الأردني مع
المشغلين. الأمر الذي قد يتسبب بتأخر تنفيذ مشروع نشر الجيل الخامس في الأردن عن
موعده ويؤدي لرفع التكلفة وخسارة فرص الاستفادة من الرصيد الكبير القائم حالياً في
شبكات اتصالات المشغلين بالشراكة مع هواوي، ما سيؤدي لهدر مشغلي الاتصالات لمزيد
من الأموال والمغامرة بمستقبل رضى العملاء لخسارة الخدمات المتطورة والأسعار
التنافسية الموجودة حالياً.
وأوضح
المسؤول التنفيذي بأن الحكومة الأردنية اتخذت القرار بدون استشارة المعنيين، بما
يتنافى مع قوانين وإجراءات المناقصات المتبعة في هذا المجال، ما يمكن أن يؤدي
لفقدان ثقة الشركات العالمية حيال الاستثمار في الأردن كأحد الأسواق التي توفر
بيئة تنافسية شفافة وعادلة لجميع الشركات بغض النظر عن جنسيتها، سيما وأنه يتم
حالياً منع إجراء التخليص الجمركي للموردين الصينيين. وقال المسؤول: "إن وضع
قيود أو حظر على شركات من بلد معين يعد انتهاكًا لحقوقها القانونية، ومن الواضح
أنه يدمر خلق فرص متكافئة ويضر بفرص جذب المستثمرين الأجانب إلى هذه الصناعة
الحيوية الهامة على طريق تحقيق رؤية التحديث الاقتصادي في الأردن"
وبعد
إبرام هيئة تنظيم الاتصالات في سبتمبر 2022 لاتفاقية مع مشغلي الاتصالات الثلاثة لإطلاق
الجيل الخامس، قدمت الحكومة الأردنية باقة دعم بديلة لاستخدام الموردين الصينيين وخسارتهم
لأصول الشبكات الحالية معهم، تمثلت بعرض طيف ترددي مجاني وحوافز مادية، لكنها لم
تكن مقنعة بتاتاً بالنسبة للمشغلين الثلاثة باعتبارها لا تشكل بديلاً واقعياً
للتخلي عن الاستثمارات الموضوعة في شبكاتهم بالشراكة مع المورد الصيني هواوي والنجاحات
المحرزة معه على مدى سنوات طويلة.
لم
تعلن هيئة تنظيم قطاع الاتصالات حتى اليوم عن تاريخ الإطلاق الرسمي المرتقب للجيل
الخامس في الأردن، ولم يصدر أي إعلان عن المشغلين الثلاثة حول نتيجة المناقصات مع
الموردين، سوى تلك التي تم الإعلان عنها بين أمنية وشركة إريكسون السويدية، حيث
أعلنت إريكسون على موقعها في 9 فبراير أن أمنية اختارتها كشريك لأعمال المرحلة
الأولى من إطلاق شبكة الجيل الخامس في المملكة. ونشر أحد مسؤولي إريكسون
وهو نائب الرئيس ومدير الحسابات تعليقاً على حسابه الشخصي في لينكد إن يقول فيه بأنه
"متحمس حيال تطورات الجيل الخامس في دول المنطقة خارج نطاق دول مجلس التعاون
الخليجي". وأضاف: "قرار حكيم جداً من الحكومة الأردنية، وسيتم اتباعه
بالتأكيد من قبل مزيد من الهيئات التنظيمية لقطاع الاتصالات". وفي نفس
اليوم" قام بتعديل "الهيئات التنظيمية لقطاع الاتصالات" لـ: "
الأسواق"، ليتم بعد ذلك إزالة المنشور بالكامل فيما مايبدو على ضوء النقد
الذي تعرض له المنشور كونه يعتبر في سياقٍ تشجيع إريكسون لكسر قواعد التنافس الحر
الشريف بين الموردين والتشجيع على احتكار الشركات الغربية لأسواق تكنولوجيا الجيل
الخامس في دول المنطقة. وهذا تبنى واضح لفكرة إقصاء الشركات الصينية من المناقصات،
يتناقض فعلياً مع مصلحة أعمال شبكات أمنية التي ستكون تحت ضغط العمل مع إريكسون في
الجيل الخامس من الصفر، بعيداً عن الاستفادة من قدرات شبكاتها الحالية التي تم
بناؤها على مدى سنوات مع هواوي وتشكل 100% من أعمال الشبكة الأساسية (الكور) و60%
من الشبكات اللاسلكية، وبالتالي خسارة فرص التوفير المادي والبناء على التجارب
الناجحة للعملاء، والقدرة على إنجاز المشروع خلال زمن قياسي يختزل أكثر من 6 أشهر
مقارنة.
مشروع إطلاق الجيل الخامس في الأردن مثال جدير بالتوقف
عنده كونه يسلط الضوء على قضية هامة تتعلق بالمصالح الوطنية وتدخل التحالفات
والمصالح الدولية بالمناقصات التجارية، خصوصاً في مجال الجيل الخامس الذي يتوقع أن
يكون له أثر فاعل في دفع مسيرة تنمية وتقدم الشعوب كما هو الحال في في الأردن الذي
تنتظر من الجيل الخامس أن يكون رافداً قوياً لجهود الحكومة الجادة لتحقيق أهداف
رؤية التحديث الاقتصادي. وهذا أمر حيوي بحسب رأي خبراء واستشاريي الأعمال الذين
يدفعون باتجاه تحييد التكنولوجيا عن القضايا الجيوسياسية كونها "قوت
الشعب" كما وصفها الدكتور عبد الرحيم الهور في مقالة نشرناها على موقعنا، ويرى
بأن " الاستثمار في الابتكار هو روح التقدم التكنولوجي و عصب
الحياة" وأن: "الفرصة متاحة لجميع شعوب العالم في التعلم والابتكار
والمنافسة تحت مظلة الاستثمار بالبحث العلمي و بناء الشراكات المتعددة وعدم اقصاء أي
شريك دولي تكنولوجي على بعد سياسي". وينادي الدكتور الهور: بـ"وجوب
تحييد التكنلوجيا عن التحالفات السياسية، وتغليب المصلحة الوطنية الاقتصادية
الاستراتيجية ، وليست الآنية، وهذا الطرح يقود الى فكرة سياسية اقتصادية مبتكرة
وهي استخدام التكنلوجيا كمحفز لبناء التحالفات الدولية متعددة الأقطاب، بحيث تكون
التكنلوجيا هي المدخل للدول لدمج علاقاتها و تحالفاتها لصالح جميع الأطراف، ولنا
في ذلك أمثلة متميزة لدول حققت توازن فعال في التنوع في استخدام أكثر من صانع تكنولوجيا
عالمي".
دول عديدة تقدمت في مجال الجيل الخامس وتطبيقاته
التجارية استطاعت أن تصنع توازناً جيداً لمصالحها مع الولايات المتحدة والغرب
مقابل الصين، وخير مثال على ذلك ألمانيا رائدة الثورة الصناعية الرابعة التي لم
تغضب الصين بإقصاء هواوي، وفي نفس الوقت لم تغضب أمريكا كونها عمدت لخفض مستوى
العمل مع هواوي وحصتها السوقية في سوق الاتصالات الألماني دون وضعها على القائمة
السوداء. وهناك دروس أخرى كثيرة مماثلة يمكن استقاؤها من منطقتنا كالمملكة العربية
السعودية والإمارات وقطر وسائر دول مجلس التعاون الخليجي التي تتربع اليوم على عرش
الريادة العالمية في الجيل الخامس وتطبيقاته وتعطي فرصاً متساوية للموردين من كافة
الجنسيات، وتجربة مشغلي الاتصالات في قطر التي لاقت استحسان العالم بأسره في كأس
العالم بالشراكة مع أكثر من مورد في مقدمتهم الشريك الصيني هواوي مثال تنبض منه إيجابيات
تعدد أقطاب الموردين.